متفرجوا السينما الأوائل أصيبوا بالدهشة منذ ظهور الكوادر الفيلمية الأولى أواخر القرن التاسع عشر؛ هذا أمر أصبح من بديهيات تاريخ السينما نفسه، ولم يعد ممكنا إضافة شيء إليه من حيث المبدأ، لكن الطبيعة الوثائقية للشخصيات المصورة التي قدمت حنوّاً محيّراً على سطح الشريط السينمائي، ودفع إلى تكسّر الأمواج عليه قد يحرك الحديث عنه فضول مستغرق في الزمن، فمن خلال الكاميرا السينمائية وحدها ظهر أن المتفرجين يسافرون عبر الأراضي البعيدة، وكأنهم يشاهدون لوحات مجهولة من الظواهر الطبيعية، وهنا الكاميرا تصبح شاهدا على أحداث من صميم الحياة الاجتماعية، وهذا دفع كثيرين للتزود بها بانتظار وقوع حدث هنا أو هناك. الفيلم الوثائقي لن يعود مجرد إلقاء نظرة ثابتة على هذه الأراضي المجهولة، بحثا عن شعوب مجهولة وتائهة وراء الحجب إرضاء لفضول سياحي متعدد الفصول والوجوه، بل أصبح قصة عن الزمن نفسه؛ وسرعان ما سيتأكد الجميع أن المتفرجين سيظهرون اهتماما متزايدا بمثل هذه الظواهر المجتمعية. وهذا دفع ببعض السينمائيين للتفكير جديا بمثل هذا الاهتمام ودراسته بدقة من مختلف الزوايا الممكنة، من دون إغفال الأحداث الجارية من حولهم. وهكذا عرف الناس أفلام جورج ميلييه ( قضية درايفوس ) – ( تتويج ادوارد السابع ). وفي روسيا، وفي أثناء حرب عام 1905 تبين دراسة السيناريوهات المكتوبة في تلك الفترة من قبل مؤرخي السينما، أنها كتبت كما لو أنها قصص نظيفة وخالية من الشوائب وتصلح في قراءة معالم تلك المرحلة العاصفة حتى من دون أن تصور. بالطبع لن يتوقف الأمر هنا، فمن أجل الوصول إلى مطابقة مثلى مع الأفلام الروائية استخدمت المدرستان الانجليزية والأميركية مواد قصصية لم تكن بعيدة عن الوضعيات النفسية والاجتماعية التي يرغب بها المشاهد في طويته في رؤيتها حين يدخل الصالة المعتمة. في فرنسا قام "إميل كول" بتجميع مشاهد روائية ووثائقية في " بدن" فيلمي واحد، حتى أنه لم يوفر الرسوم المتحركة في وقت مبكر جدا من عام 1907، وهو ما حدا بشركة "غومون" إلى الزهو بمحاولاته مدة طويلة، قبل أن تأخذ السينما الروسية على عاتقها عمل الريبورتاجات الوثائقية، عندما صُور في عام 1911 فيلم (الدفاع عن سفيتاستبول). وبالرغم من أن السينما الوثائقية في سنوات العشرينات من القرن الماضي كانت تدخل بشكل اضطراري، في ما يمكن تسميته بـ (المكثف البصري الروائي) في أفلامها، إلا أنها لم تشهد انعطافات حاسمة في مسيرتها التطورية. وجاء الدفع القوي لاحقا من خلال التحولات السياسية والاجتماعية التاريخية التي شهدتها الكرة الأرضية بعد الحرب العالمية الأولى، والفتوحات النظريّة التي تقدمت بها السينما السوفياتية بعد ثورة أكتوبر البلشفية. والواقع أنه من خلال أفلام السينمائي الكبير "دزيغا فيرتوف"، أخذت السينما الوثائقية أولى قطرات هذا الفن الخطر؛ فمن حكاية بسيطة كانت تتحول إلى أيقونات بصرية بلمح البصر المعافى وظهر واضحا أن هنا ثمة روح جديدة قادرة على التغلغل في جوهر العقل الإنساني من زاوية لم تعهدها البشرية من قبل. أفلام "فيرتوف" قامت حينها بثورة جمالية ضرورية في مهد السينما الوثائقية التي أخذت تشق طريقا مغايرا غير مألوف ويمكن الرهان عليه مستقبلا، ففي هذه الفترة بدأ "فيرتوف" تجاربه في حقل المونتاج، وفي الأول من حزيران من عام 1918، وفي العاصمة السوفياتية ( آنذاك ) موسكو ظهر العدد الأول من المجلة السينمائية ( الأسبوع السينمائي ) الذي قدم تصورا جديدا عن نشر واستخدام الصورة – الوثيقة. وحاول "فيرتوف" من خلال هذه الزاوية أن يشعل شيئا في الجو من خلال بعث هذه التصورات الجمالية في أول جريدة سينمائية له؛ وسرعان ما خطا باتجاه نمذجة نظرية صاخبة وفريدة من نوعها. وبين الأعوام 1922 – 1924 تحولت الجريدة السينمائية إلى ( الحقيقة السينمائية )؛ ومن خلال طروحاته الفنية الاستثنائية تمكن من جمع المشاهد الفيلمية المصورة مع "لينين" في فيلم خاص به، وقدم قصة مثيرة عن الزعيم البلشفي، احتلت مكانا بارزا في تاريخ السينما الوثائقية كما سيظهر من تقييمها لاحقا. لن تتوقف الأمور هنا مع هذا المتمرد الاستثنائي، فجاءت محاولاته عبارة عن متواليات تبحث عن الموسيقى الداخلية في كل كادر مصور بغية تنظيم وترتيب المشهد كاملا، وخطا بذلك نحو بناء الوجوه دراميا من خلال وسائط المونتاج، ولهذا الهدف استخدم أفلاما صورت في أزمنة مختلفة وأمكنة متفرقة. (عملية دفن في استراهان) – 1919 يتم إعادة توليفها مع عملية طمر قبر بالتراب في كرونشتاد – 1919، ومجموعة من الحدائين في (الذاكرة الأبدية) في موسكو 1919؛ كانت اللحظة المونتاجية المتفوقة تعطي هنا من خلال "فيرتوف" ملمحا جماعيا لعملية دفن واحدة تجري في مكان واحد. تجارب "فيرتوف" لقيت مصاعب جمة فرضتها طبيعة تجميع المواد المصورة نفسها، فهي جاءت في كادرات طويلة مؤلفة من حوالي أربعين مترا تقريبا دون الأخذ بعين الاعتبار وجهات النظر الخاصة بكل لقطة على حدة. وقام "فيرتوف" بإعادة تأهيلها مونتاجيا بوصفها لقطات سينماتوغرافية خالصة بمساحات وتفصيلات دقيقة، ولكنه لم يتوقف عند هذا الحد، فقد كان جامحا وصاحب مخيلة مركبة، فأخذ يصور ليحصل على وجهات نظر مختلفة ، ولقطات أكثر تفصيلا لأكثر اللحظات الدرامية توهجا بحسب رؤيته، وهو طمح من خلال ذلك إلى تحرير الكاميرا من حالة الثبات حتى يقترب من خلال العدسة " المتشيطنة " من ردات الفعل السريعة للإنسان، ومن العين التي تكشفها بسهولة غير مبررة. وقام بدراسة تأثيرات التسريع والتبطيئ على محتوى الصورة حين تعرض معكوسة، والرسوم المتحركة أيضا لم تسلم من جموحه الفني، فقام بإدخالها على مواد جريدته وأفلامه الوثائقية. ومزهوا بنتائج تجاربه خرج "فيرتوف" على الصحافة بمقالات يتحدث فيها عن ثورية هذه التجارب، والروح الفنية الجديدة التي ستغمر الفن السابع منذ تلك اللحظة في كل كادر جديد من أفلامه. وبالنسبة لواحد مثله، فإن الفن الجديد الذي كان ينظّر له كان يمكنه أن يكون ثوريا فقط لو جرب تبديل محتواه ووسائطه التعبيرية؛ وباندفاع الشباب قام بـ "العبث" بكل المحتويات القديمة التي قدمتها السينما في ذلك الوقت، وتحت تأثير الطاقة التي تبحث في تهديم الماضي، وبانحناءة رمزية أمام الوثيقة قام بنفي مصطلح الفن الروائي، واعتباره معاديا للثورة (......)!! لا تقتربوا لا تلامسوه بمحجر العين إنه خطر على الحياة ومعد وقاتل ...!! وأعلن "فيرتوف" الحرب على السينما الروائية، واعتبرها خديعة للشعب وقال: "إن الدراما السينمائية والدين أسلحة فتّاكة في أيدي الرأسماليين" ودعا إلى إسقاط القصص البرجوازية والسيناريوهات وقال في ( العين السينمائية 1924) : " لتعش الحياة كما هي". كان "فيرتوف" يقترب هاذيا – ربما – من فكرة التصوير عبر مقاطع من عالم غير مسوّى، على أن ينظم عبر وسائط المونتاج، حتى يظهر على الشاشة نبض الحقيقة السينمائية فقط: " أنا عين السينما..أنا أعيد صوغ الإنسان بمثال يفوق آدم..أنا أعيد صوغ آلاف البشر بملامح وطبائع مختلفة..أنا العين السينمائية.. آخذ يد الأقوى من البعض والأنف الأكثر دقة من البعض الآخر، والرأس الأجمل من البعض الثالث، وبالمونتاج فقط سوف أخلق الإنسان الجديد". (العين السينمائية) تحولت بالطبع إلى بيان نظري للسينما الوثائقية الجديدة، والتي أراد "ذريغا فيرتوف" أن يحققها مع مجموعة من الشباب المتحمس لهذه السينما، وقد حزم أمره مع مصورين شجعان تحولوا تحت إمرته إلى شخص واحد في قالب سينمائي منصهر، وكان أقرب مساعديه هو شقيقه المصور "ميخائيل كاوفمان" (الاسم الحقيقي لـ "دزيغا فيرتوف" "دينيس كاوفمان")، والذي عمل معه جزءاً من تجاربه السينمائية والمونتاجية. سميت المجموعة في ذلك الزمن العاصف بإسم قريب من (العين السينمائية ). وفي عام 1924 ظهر إلى النور الفيلم الذي يحمل الاسم نفسه، واسمه الكامل (العين السينمائية للاستقصاء) والذي عكس تفكير المجموعة الجديدة وظهر بوصفه تقديما بصريا حيا للأحداث المعاصرة التي تدور في القرية والمدينة، والصراع المحتدم بين الجديد والقديم من خلال مغامرين وقفوا ضد الرشاوى، والاختلاس، والإدمان الكحولي، والطفولة الشقية المعذبة التي كانت ترزح روسيا الجديدة تحت وطأتها. و"فيرتوف" لم يقم فقط بتركيز الكاميرا بهدف مراقبة ما يحدث، ولكنه أوغل في المونتاج حد نفث طاقته الخلاقة في كل كادر كان " يعبث" به ويشرحه من جديد معتبرا إياه الإيقاع الأزلي للفيلم المشتهى. ومع ذلك، فإن توجسات "فيرتوف" لم تكن في محلها، فقد رفض الفيلم من قبل الجمهور والنقد الرسمي والشعبي على حد سواء. كثر اتهموه بشكلانية مجوفة، ورفضوا التحقق من إمكانات الكاميرا والمونتاج. مؤرخوا علم الجمال من أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي ظلوا على نفس الرأي القائل بفراغ أفلامه من المحتوى الواقعي المطلوب وأكدوا على أن "فيرتوف" يمنع على المبدع تحققه من حضوره الإبداعي لأنه يماهيه بالروح الآلية – الكاميرا؛ وبمنطق جدلي يطغى عليه هوس خاص بهذا المخرج الكبير أكد "فيرتوف" معاندا :" أنا العين السينمائية، أنا العين الآلية، أنا الآلة، أظهر لكم العالم كما أريد، وكما أراه أنا ". لو جردنا هذه النظرة المتوثبة من المرحلة الزمنية التي مرت بها، فإنه لا يمكن اعتبارها إثباتا على تقييم شخصية مبدعة ونافرة مثل "فيرتوف" وقد بدا في نظر البعض المكتوم حينها إنه صاحب نداء لتملك الكمال من خلال الوسائط الإبداعية نفسها التي يتوجب على المبدع أن يعكس العالم من خلالها. وكان هذا احتقارا لمستقبل السينما نفسها، وقد حولته السينما مسبقا إلى فن عظيم تهيأ المشاهدون لتقبله بوصفه هكذا. اليوم نظرية السينما تعترف أن الكاميراالعين السينمائية – الآلة – واحدة من أهم وسائط التعبير المبدع، إن لم تكن أهمها على الإطلاق حين يقف المخرج وراءها ليطلق صيحاته بدوران الموتور والصوت والممثلين. وفقط الفنان الذي يمتلك بشكل استثنائي هذه الوسائط التعبيرية يمكنه أن يقدم من خلالها رؤيته الخاصة بالعالم. الروح الآلية تصبح هنا " قلما " تكتب هذه الروح من خلاله أفكارها عن الحياة والمونتاج متملكة في نفس الوقت الإيقاع الشاعري الموحد لهذه الأفكار. وبقدر ما كان "فيرتوف" متملكا لطاقة تعبيرية وفنية هائلة في البحث عن الأشكال الجديدة، فإنه جهد ليملك أفكار الزمن الذي يعيش فيه، ومن خلال أجنحة التوثيق وحدها أخذت أفلامه التالية (تقدمي أيتها السوفيتات) 1925 و(الجزء السادس من العالم) 1927 ملامح أكيدة للبحث عن هذه الأشكال وتغطيتها, مع الاقتراب من الإيقاع والشاعرية النارية المتوهجة في ذلك الزمن عند "ماياكوفسكي". ولم يوفر "فيرتوف" جهدا في استخدام عناوين الأفلام بوصفها اللهجة الإيقاعية المظفرة في بناء الفيلم أيضا. وتجاسر وحول هذين الفيلمين إلى قصائد خاصة به :" قصيدة عن العمل الحر للشعب الحر في الفيلم الأول، وقصيدة عن البلد المسالم الذي يحتل مساحة جغرافية كبيرة هائلة من هذا العالم في الفيلم الثاني". ومنذ عهد السينما الصامتة رأى "فيرتوف" بعين ثاقبة تلك العلاقة الحيوية بين ما هو بصري وما هو سمعي حتى أنه لم يتورع عن إضافة فصل جديد على شغفه السينمائي أطلق عليه (عين الراديو) رأى فيه فرصة خلاقة لتنظيم الحقل السمعي في معركته مع المستقبل. هل يعني ذلك أن تجارب هذا السينمائي تجاوزت حدود الزمن وطفت على حوافه ؟! في أجواء مجهولة نسبيا ليس فقط بالنسبة للسينما الوثائقية، وإنما للسينما الروائية أيضا، قام "فيرتوف" بتحقيق فيلمه (الرجل والكاميرا السينمائية) والذي أعلن عنه بوصفه " شعرنة "لمهنة المصور السينمائي ولمعجزة المونتاج، فلقد جرى اصطياد كوادر من الحياة وجرى توليفها بإيقاع غنائي حار، كما كتب حينها المنظر السينمائي "نيكولاي ليبديف". اليوم ينظر إلى هذا الفيلم بوصفه الإلهام الذي تخطى عصره رغم إنه لم يمتلك الوضوح حينها، هذه هي حقيقة "فيرتوف" نفسه وجرى عكسها بعين المصور السينمائي الحاذق، إذ يمكن القول إن هذا المخرج اكتشف مرة واحدة البصيرة الداخلية للإنسان منذ عام 1929، ليس من خلال المشاهد التي يعاد تمثيلها، وإنما من خلال المواد التوثيقية التي تصور في الحياة ومن أجل الحياة نفسها. وحتى يومنا ما يزال فيلمه حيويا وملحا وجاذبا؛ وإبداع "فيرتوف" سيظل يترك تأثيرات غير محدودة على مجمل تطور الفيلم الوثائقي عموما, ومنذ أن عرضت أفلامه في أوروبا في صالات خاصة بـ ( أصدقاء الفن السابع ) وجرى نقاشها بشكل مطول وموسع في نوادي سينمائية في بلدان كثيرة ظهر واضحا للعيان أن السينمائيين الشبان خرجوا بانطباعات قوية، وهم يطمحون إلى تجميع أفكار الأفانغارد بفتوحات "فيرتوف" السينمائية وذلك في مجرى نهر واحد. "هانز ريختر" الذي خطفته السيمفونيات الفرجوية منذ عام 1926 ورفع شعار (الفيلم السياسي ضروري لنا)، فكّر أن يحقق "نصف" فيلم وثائقي في (الاتحاد السوفياتي). "فالتر روتمان" ترك أفكاره التجريدية تحت تأثير "فيرتوف" وأخذ يولف أفلاما من المواد المصورة التي تقع يده عليها بمبدأ العين السينمائية مثل: (برلين سيمفونية مدينة كبيرة) 1927 و(لحن العالم) 1929، وهي أفلام تخطت الأفانغارد النمساوي في تلك الفترة وقدمت للعين السينمائية أفكارا ايجابية، ولكنها قدمت الإنسان بوصفه أنموذجا بيولوجيا وأفكاره هذه قادته نحو تبني الفاشية؛ ولكن هذا ليس خطأ "فيرتوف"، إذ ظهر جليا أيضا أن قوته لم تكن تكمن قط في الشكلانية الجديدة، وإنما في الطاقة الخلاقة التي نشأت عنها أفلامه المثيرة للفكر والجدل. فتوحات "دزيغا فيرتوف" خلال عشرينيات القرن الماضي سرعت في تطوير عمليات الأفانغارد نحو المنهج التوثيقي، الذي أخذ يظهر في المجمدات من الأشياء، ولكن من خلال الإنسان وعبوره الحر الخلاق نحو علاقات اجتماعية لا يمكن أن يقوم من دونها، وقد أصبحت علامة لأفلام فرنسية مثل: (منطقة جورج لاكومب) عمله مساعد سابق لـ/ رونيه كلير، و(مناسبة نيتزا) لـ/ جان فيغو، صوّره: "بوريس كاوفمان". المدرسة التوثيقية الانجليزية التي تفتحت في ثلاثينيات القرن الماضي تأثرت بإبداعات "فيرتوف". (قوارب الصيد) لـ/ جون غريرسون، كان واقعا تحت تأثير وسطوة هذا المخرج الكبير، ولا يمكن تجاهل أن السينما العالمية لطالما نحتت من إبداعاته تصورات جديدة عن هذا العالم عبر العقود الماضية، وسوف تتنقل المصطلحات (الفيرتوفية) بسهولة ويسر بين المصطلحات الفرنسية والعالمية، فهو لم يخلف وراءه ثورة في الفن السابع وحسب، ولكنه ترك تأثيرات في المنظومة البصرية عموما. والسينما العالمية سوف تعود إليه دائما وتتودد إلى فتوحاته كما لم تتودد إلى سينمائي من قبل. "اسفير شوب" التي عملت أفلاما بإسم (الأفلام الوثائقية المونتاجية) مستخدمة مواد مصورة من أفلام سابقة وتحققت قبل ثورة أكتوبر البلشفية قامت هي بوضع لمساتها على أفلام جديدة مثل: (سقوط العائلة رومانوف) 1927 و(الطريق العظيم) 1927 و(روسيا نيكولاي الثاني وتولستوي) 1928 قدمت من خلالها أساسات لنوع جديد من الفن التوثيقي الذي يستخدم أرشيفا مصورا من أجل رواية قصة مفصلة بالكوادر، وقد بدا البناء المونتاجي معها أكثر هدوءا من إيقاع "فيرتوف" العصبي الذي ولد من إحساس خاص به فقط. يمكن القول إنه قد ولد فن جديد هنا من خلال الاستخدام الكامل لأفلام مصورة تقبّله سينمائيون كثر، وهو نوع سمح بحسب تقديراتهم ببناء متعدد الأشكال دون حدود أو معيقات، إذ بدا واضحا مدى السهولة في التنقل بين الشخصية التاريخية والبروتريه الشخصي والسيرة الذاتية التي تحمل في طياتها أبعادا فلسفية خلاقة. ومع مراكمة مئات آلاف الأمتار من الشرائط المصورة حظي الفيلم الوثائقي المونتاجي بإمكانات استثنائية للتطور وإشباع نهم المتفرج الجديد الذي كان "فيرتوف" يبحث عنه في أفلامه أيضا. السينما الوثائقية (السوفياتية) من حقبة العشرينيات من القرن الماضي قدمت أول مصطلح واقعي للسينما الوثائقية، وأصبحت في المقدمة الفنية، وهي تثير اليوم أكثر من أي وقت مضى شهية الحديث عنها، وعن الحقبة التي اتهم فيها "فيرتوف" بالشكلانية المتطرفة، وجرى الحديث سرا وعلنا عن "وقوعه" في فخ أعداء الثورة॥ وهو فخ متصالب الأقدار حين لم ينج منه كثر في تلك الأزمنة العاصفة।
المصدر - الجزيرة
تعليقات
إرسال تعليق